الأربعاء، سبتمبر 13، 2017

محكمان في النار ومحكم في الجنة


صدر في عام 1433هـ نظام التحكيم السعودي الجديد بالمرسوم الملكي رقم (م/34) وتاريخ 24/5/1433هـ، والذي جاء بأحكام ومبادئ لم تكن مألوفة لدى المشتغلين في حقل  التحكيم قبل صدور النظام الجديد، وفي مقالتي هذه أود تسليط الضوء على طبيعة عمل المحكم وفقاً لهذا النظام ومدى خطورته على المُحكِم نفسه.
 وبدايةً، فإذا كان التحكيم في العصر الراهن قد اكتسى أهمية كبيرة عن ذي قبل، ولاقى رواجًا وأصبح ملاذًا لأطراف النزاع لما فيه من خصائص ومزايا من شأنها تحقيق أهداف وغايات أطراف النزاع في إنهاء الخصومة، فقد ترتب على إثر ذلك انتشار ثقافة التحكيم بين الأشخاص والتي باتت تتزايد يوماً بعد يوم. وعلى وجه الخصوص بتنا  نُلاحظ التوسع المطرد الذي يلقاه التحكيم المؤسسي خاصة بعد إنشاء المركز السعودي للتحكيم التجاري، بالإضافة إلى اهتمام بعض الأشخاص  بتقديم خدمة التحكيم الحُر.
 وتأكيدًا وتعزيزًا لهذا التوجه لم يشترط نظام التحكيم في المحكم ما يشترط في القاضي، إذ أنه أكتفى بكمال الأهلية وحسن السيرة والسلوك، واشترط الكفاءة العلمية سواءً أكانت شرعية أم نظامية في حال كان المحكم رئيساً لهيئة التحكيم.
وإلى جانب ما سبق ذكره، فلا زلنا نلاحظ انتشار دورات التحكيم، واهتمام بعض المراكز بتقديم الدورات ومنح رخص التحكيم، واتجاه كثير من المحامين نحو المحاكم لتقديم أنفسهم للإشتراك في تكوين هيئة التحكيم. وهذا التوجه لاشك في أنه توجه محمود، إلا أنني أود في مقالتي هذه توضيح أمرين في غاية الأهمية. أولهما، إن طبيعة عمل المُحكِم في أداء مهامه أثناء النظر في إجراءات التحكيم لا تختلف عن مهام القاضي، لأن الأخير هو شخص يختص بالفصل في نزاع قائم بين خصمين أو أكثر بحكمٍ ملزمٍ، ولا ريب في أن المحكم يستمد إختصاصه إبتداءً من أطراف النزاع ليتمكن من النظر والحكم في الدعوى التحكيمية، إلا أن طبيعة عمله طبيعة قضائية شأنه في ذلك شأن القضاة في المحاكم، حيث إن ما يصدره من قرارات تكون نهائية ومنهية للخصومة وتكتسب حجية الأمر المقضي به ولا يجوز بموجبها إعادة طرح موضوع النزاع تارة أخرى للفصل فيه.
لذلك، يجب أن نتفق بأن المحكم هو قاضي، ويسري عليه شرعاً ما يسري على القاضي، وإن كان نظام التحكيم لا يشترط في المحكم ما يشترط في القاضي، فإن هذا المسلك من المُنظم السعودي أظنه من باب التخفيف ولا يغير من طبيعة عمل المحكم القضائية ألبتة.
والأمر الثاني، فهو يُعنى بالرجوع إلى واقع التحكيم في المملكة وغيرها من الدول، إذ نجد البعض يظن أنه بمجرد الاشتراك في دورة تدريبية في مجال التحكيم قد أصبح محكماً، وبعضهم يزيد في ذلك بإضافة عبارة "محكم دولي معتمد" مما يوهم القارئ بأنه يمتلك الكفاءة الكافية للنظر في منازعات التحكيم، داخلية كانت أم دولية.
وهذا الفهم يجانب الصواب، لأنه لو أخذنا بهذا التوجه لأكتفى القاضي بدراسة مادة الإجراءات الشرعية ليصبح مؤهلاً للنظر في أي نزاع. ولكن حقيقة التحكيم تكشف لنا أنه ليس نظام إجرائي فقط، فالعلم بالإجراءات لا يعني العلم بوقائع النزاع والنصوص الشرعية والنظامية الموضوعية واجبة التطبيق على النزاع، فهذا علمُ قائم بذاته. ومن ثَمَّ، يجب على المحكم  أن يمتلك الروح القضائية في طريقة فهم الوقائع وتسبيب الأحكام وترجيح الأدلة، وعليه أن يكون كذلك مؤهلاً تأهيلاً كافياً للنظر في موضوع النزاع، سواءً أكان نزاعاً تجارياً أم هندسياً أم في مجال المعاملات المصرفية.

وبالتالي فليس صحيحًا ما قد يظنه البعض أنه يكفي الإحاطة بأحكام نظام التحكيم السعودي لأن يصبح الشخص محكمًا.

ولما كان المحكم قاضيا، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القُضاة ثَلاثة : قَاضِيان في النار ، وقاضٍ في الجَنَّة ، قَاضٍ عَرَف الحقَّ فَقَضَى به فهُو في الجَنَّة ، وقاضٍ عَلِم الحَقَّ فجَارَ مُتعمِّدًا فذَلِك في النار ، وقَاضٍ قَضَى بغَيْر عِلْم واسْتَحْيا أن يَقول : إنِّي لا أَعلَم فهُو في النَّار".

لذلك أنصح كل من أراد أن يدخل في عالم التحكيم بأن يتقي الله عز وجل وأن يكون عالماً بما يقضي به، وألا يقضي بجهل لأنه لا يجوز له أن يقضي بغير علم وإن أصاب الحق!

وأخيراً، أستعير بعضاً من كلمة الشيخ الشعراوي أمام الرئيس السابق محمد حسني مبارك، فأنا أنصح كل من يجول برأسه أن يكون محكماً، أنصحه بأن لا تطلبه، بل يجب أن تُطلب له، فإن رسول الله قال، من طُلب إلى شئٍ أعين عليه، ومن طَلب شيئاً وُكل إليه.